فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ}.
أي: في الآخرة: {مَالًا وَوَلَدًا} أي: انظر إلى هذا القائل المجترىء على الغيب ما أكفره.
{أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} أي: بذلك، لأنه لا يتوصل إلى العلم به إلا بأحد هذين الطريقين.
{كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} أي: نحفظه عليه للْمُؤَاخَذَة به: {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} بمضاعفته له، جزاءً لاستهزائه.
{وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} أي: ننزع عنه ما آتيناه من مال وولد، فلا يبقيان له حتى يمكنها قطع العذاب عنه: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} أي: في الحشر، لا يصحبه مال ولا ولد. فما يجدي عليه تمنّيه وتألّيه.
وقد روى البخاريّ: عن خَبَّاب رضي الله عنه، قال: كنت قينًا- حدَّادًا- في الجاهلية بمكة. فعملت للعاص بن وائل سيفًا، فجئت أتقاضاه فقال: لا أقضيك حتى تكفر بمحمد. قلت: لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث. قال. فذرني حتى أموت، ثم أبعث فسوفَ أوتَى مالًا وولدًا فأقضيك. فنزلت الآية. قال ابن عباس: فضرب الله مثله في القرآن.
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} أي: ليتعززوا بهم، بأن يكونوا لهم وصلة إليه عزّ وجلّ، وشفعاء عنده.
{كَلَّا} أي: ليس الأمر كما زعموا، ولا يكون ما طمعوا: {سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْْ} أي: ستجحد الآلهة استحقاقهم للعبادة: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} أي: يريدون إهلاكهم، إذا أوقعوهم في هلاك دعوى الشرك، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5- 6]. وقال تعالى: {وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} [النحل: 86]، قيل: المراد بالآلهة من عُبِدَ من ذوي العلم. لإطلاق ضمير العقلاء عليهم ونطقهم. وقيل: الأصنام. بأن يخلق الله فيهم قوة النطق، فيطلق عليهم ما يطلق على العقلاء. وقيل: الأعم منهما، وهو الأظهر.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي: بأن سلّطناهم عليهم ومكّنّاهم من إضلالهم. أو قيضناهم لهم يغلبون عليهم: {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} أي: تغريهم وتهيجهم على المعاصي، بالتسويلات وتحبيب الشهوات، تهيجًا شديدًا.
قال الزمخشريّ: الأز والهز والاستفزاز أخوات. ومعناها التهييج وشدة الإزعاج والمراد تعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد الآيات التي ذكر فيها العتاة والمردة من الكفار، وأقاويلهم وملاحاتهم ومعاندتهم للرسل، واستهزاؤهم واجتماعهم على دفع الحق بعد وضوحه وانتفاء الشك عنه، وانهماكهم لذلك في اتباع الشياطين وما تسوّل لهم. فهذه الآية كالتذييل لما قبلها وقوله تعالى: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} أي: بوقوع العذاب بهم لتطهر الأرض منهم. والفاء للإشعار بكون ما قبلها مظنة لوقوع المنهيّ عنه، محوجة إلى النهي. يقال: عجلت عليه بكذا إذا استعجلته منه. وقوله تعالى: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} تعليل لموجب النهي، ببيان اقتراب هلاكهم. أي: إنما نؤخرهم لأجل معدود مضبوط، ونحوه قوله تعالى: {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف: 35].
قال الشهاب: العدّ كناية عن القلة. وقلته لتقضّيه وفنائه، كما قال المأمون ما كان ذا عدد، ليس له مدد، فما أسرع ما نفد ولا ينافي هذا ما مرَّ أنه يمد لمن كان في الضلالة. أي: يطوّل. لأنه بالنسبة لظاهر الحال عندهم. وهو قليل باعتبار عاقبته وعند الله. ولله در القائل:
إن الحبيبَ من الأحباب مختلَسُ ** لا يمنع الموتَ بوَّابٌ ولا حَرَسُ

وكيف يفرحُ بالدنيا ولذّتِهَا ** فتى يُعَدُّ عليه اللفظُ والنَّفَسُ

اهـ.

.قال الشنقيطي:

{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)}.
أخرج الشيخان وغيرهما من غير وجه عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: «جئت العاص بن وائل السهمي أتقاضاه حقًا لي عنده. فقال: لا أعطيك حتى تكفُر بمحمدٍ صلى الله عليه ويلم. فقلت: لا؟ حتى تموت ثُمَّ تبعث. قال: وإني لميث ثم مبعوث؟؟ قلت نعم. قال: إن لي هناك مالًا وولدًا فأقضيك. فنزلت هذه الآية: {أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم: 77]». وقال بعض أهل العلم: إن مراده بقوله: {أُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} الاستهزاء بالدين وبخباب بن الأرت رضي الله عنه، والظاهر- أنه زعم أنه يؤْتى مالا وولدًا قياسًا منه للآخرة على الدنيا، كما بينا الآيات الدالة على ذلك. كقوله: {وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى} [فصلت: 50]، وقوله: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات} [المؤمنون: 55-56] الآية، قوله: {وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلاَدًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ: 35] إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه. وقرأ هذا الحرف حمزة والكسائي {وولدًا} بضم الواو الثانية وسكون اللام. وقرأه الباقون بفتح الواو واللام معًا، وهما لغتان معناهما واحد كالعرب والعرب، والعد والعدم. ومن إطلاق العرب الولد بضم الواو وسكون اللام كقراءة حمزة والكسائي قول الحارث بن حلزة:
ولقد رأيت معاشرًا ** قد ثمروا مالًا وولدا

وقول رؤبة:
الحمد لله العزيز فردًا ** لم يتخذ منولد شيءٍ ولدا

وزعم بعض علماء العربية: أن الولد بفتح الواو واللام مفرد. وأن الود بضم الواو وسكون اللام جمع له.
كأسد بالفتح يجمع على أسْد بضم فسكون. والظار عدم صحة هذا.
ومما يدل على أن (الولد) بالضم ليس بجمع قول الشاعر:
فليت فلانًا كان في بطن أمه ** وليت فلانًا كان ولد حمار

لأن (الولد) في هذا البيت بضم الواو وسكون اللام، وهو مفرد قطعًا كما ترى.
قوله تعالى: {أَطَّلَعَ الغيب أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْدًا كَلاَّ}.
اعلم أن الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة رد على العاص بن وائل السهمي قوله: إنه يؤتى يوم القيامة مالًا وولدًا، بالدليل المعوف عند الجدليين بالتقسيم والترديد، وعند الأصوليين بالسير والتقسيم. وعند المنطقيين بالشرطي المنفصل.
وضابط هذا الدليل العظيم أنه متركب من أصلين: أحدهما- حصر أوصاف المحل بطريق من طرق الحص، وهو المعبر عنه بالتقسين عند الأصوليين والجدليين، وبالشرطي المنفصل عند المنطقيين.
والثاني- هو اختيار تلك الأوصاف المحصورة، وإبطال ما هو باطل منها وإبقاء ما هو صحيح منها كما ستى إيضاحه إن شاء الله تعالى. وهذا الأخير هو المعبر عنه عند الأصوليين (بالسبر)، وعند الجدليين (بالترديد)، وعند المنطقيين، بالاستثناء في الشرطي المنفصل. والتقسيم الصحيح في هذه الآية الكريمة يحصر أوصاف المحل في ثلاثة، والسبر الصحيح يبطل اثنين منها ويصحح الثالث وبذلك يتم إلقام العاص بن وائل الحجر في دعواه: أنه يؤتى يوم القيامة مالًا وولدًا.
أما وجه حصر أوصاف المحل في ثلاثة فهو أنا نقول: قولك إنك تؤتي مالًا وولدًا يوم القيامة لا يخلو مستندك فيه من واحد كم ثلاثة أشياء:
الأول- أن تكون اطلعت على الغيب، وعلمت أن إيتاك المال والولد يوم القيامة مما كتبه الله في اللوح المحفوظ.
والثاني- أن يكون الله أعطاك عهدًا بذلك، فإنه إن أعطاك عهدًا لن يخلفه.
الثالث- أن تكون قلت ذلك افتراءً على الله من غير عهد ولا اطلاع غير.
وقد ذكر تعالى القسمين الأولين في قوله: {أَطَّلَعَ الغيب أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْدًا} مبطلًا لهما بأداة الإنكار. ولا شك أن كلا هذين القسمين باطل. لأن العاص المذكور لم يطلع الغيب. ولم يتخذ عند الرحمن عهدا. فتعين القسم الثالث وهو أنه قال ذلك افتراءً على الله. وقد أشار تعالى إلى هذا القسم الذي هو الواقع بحرف الزجر والردع وهو قوله، {كَلاَّ} أي لأنه يلزمه ليس الأمر كذلك، لم يطلع الغيب، ولم يتخذ عند الرحمن عهدًا، بل قال ذلك افتراءً على الله، لأنه لو كان أحدهما حاصلًا لم يستوجي الردع عم مقالته كما ترى. وهذا الدليل الذي أبطل به دعوى ابن وائل هذه هو الذي أبطل به بعينه دعوى اليهود: أ، هم لن تمسَّهم النار إلا أيامًا معدودة في سورة (البقرة) قسم اطلاع الغيب المذكور في (مريم) لدلالة ذكره في (مريم) على قصده في (البقرة) كما أن كذبهم الذي صرح به في (البقرة) لم يصرح به في (مريم) لأن ما في (البقرة) يبين ما في (مريم) لأن القرآن العظيم يبين بعضه بعضًا.
وذلك في قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 80] فالأوصاف هنا هي الأوصاف الثلاثة المذكورة في (مريم) كما أوضحنا، وما حذف منها يدل عليه ذكره في (مريم) فاتخاذ العهد ذكره في (البقرة ومريم) معًا والكذب في ذلك على الله صرح به في (البقرة) بقوله: {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 80] وأشار له في (مريم) على المقصود في (البقرة) كما أوضحنا.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة.
المسألة الأولى:
اعلم أن هذا الدليل الذي هو السبر والتقسيم تكرر وروده في القرآن العظيم، وقد ذكرنا الآن مثالين لذلك أحدهما في (البقرة) والثاني في (مريم) كما أوضحناه آنفًا. وذكر السيوطي في الإتقان في كلام على جدل القرآن مثالًا واحدًا للسبر والتقسيمن ومضمون المثال الذي ذكره باختصار هو ما تضمنه قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين} [الأنعام: 143] الآيتين، فكأن الله يقول للذين حرموا بعض الإناث كالبحائر والسوائب دون بعضها، وحرموا بعض الذكور كالحامي دون بعضها: لا يخلوا تحريمكم لبعض ما ذكر دون بعضه من أن يكون معللًا بعلة معقولة أو تعبديًا. وعلى أنه معلل بعلة فإما أن تكون العلة في المحرم من الإناث الأنوثة، ومن الذكور الذكورة. أو تكون العلة فيهما معًا التخلق في الرحم، واشتمالها عليهما، هذه هي اقسام التي يمكن ادعاء إناطة الحكم بها. ثم بعد حصر الأوصاف بهذا التقسيم نرجع إلى سبر الأقسان المذكورة. اي اختبارها ليتميز الصحيح من الباطل فنجدها كلها باطلة بالسبر الصحيح، لأن كون العلة الذكورة يقتضي تحريم كل ذكر وأنتم تحلون بعض الذكور، فدل ذلك على بطلان التعليل بالذكورة لقادح النقص الذي هو عدم الاطراد.
وكون العلة الأنثوية يقتضي تحريم كل أنثى كما ذكرنا فيما قبله. وكون العلة اشتمال الرحم عليهما يقتضي تحريم الجمع. وإلى هذا الإبطال أشار تعالى بقوله: {قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين} [الأنعام: 143] أي فلو كانت العلة الذكورة حرم كل ذكر. ولو كانت الأنوثة لحرمت كل أنثى. ولو كانت اشتمال الرحم عليهما لحرم الجميع. وكون ذلك تعبديًا يقتضي أن الله وصاكم به لا واسطة. إذ لم يأتكم منه رسول بذلك. فدل ذلك على أنه باطل أيضًا، وأشار تعالى إلى بطلانه بقوله: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ الله بهذا} [الأنعام: 144] ثم بين أن ذلك التحريم بغير دليل من أشنع الظلم، وأنه كذب مفترى وإضلال بقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [الأنعام: 144] ثم أكد عدم التحريم في ذلك بقوله: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} [الأنعام: 145].
والحاصل- أن إبطال جميع الأوصاف المذكورة دليل على بطلان الحكم المذكور كما أوضحنا. ومن أمثلة السبر والتقسيم في القرآن قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخالقون} [الطور: 35] فكأنه تعالى يقول: لا يخلو الأمر من واحدة من ثلاث حالات بالتقسيم الصحيح. الأولى- أن يكونوا خُلقوا من غير شيء أي بدون خالق أصلًا. الثانية- أن يكونوا خلقوا أنفسهم. الثالثة- أن يكون خلقهم خالق غير أنفسهم. ولا شك أن القسمين الأولين باطلان، وبطلانهما ضروري كما ترى، فلا حاجة إلى إقامة الدليل عليه لوضوحه. والثالث- هو الحق الذي لا شك فيه، وهو جلا وعلا خالقهم المستحق منهم أن يعبدوه وحده جل وعلا.
واعلم أن المنطقيين والأصوليين والجدليين كل منه يستعملون هذ الدليل في غرض ليس هو غرض الآخر من استعمال، إلا أن استعماله عند الجدليين أعم من استعماله عند المنطقيين والأصولين.
المسألة الثانية:
اعلم أن مقصود الجدلين من هذا الدليل معرفة الصحيح والباطل من أوصاف محل النزاع، وهو عنكم يتركب من أمرين: الأول- حصر أوصاف المحل. والثاني- إبطال الباطل منها وتصحيح مطلقًا، وقد تكون باطلة كلها فيتحقق بطلان الحكم المستند إليها، كآية {قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ} [الأنعام: 143] المتقدمة. وقد يكون بعضها باطلًا وبعضها صحيحًا: كآية (مريم والبقرة، والطور) التي قدمنا إيضاح هذا الدلي في كل واحدة منها. وهذا الدليل أعم نفعًا، وأكثر فائدة على طريق الجدليين منه على طريق الأصوليين والمنطقيين.
المسألة الثالثة:
اعلم أن السبر والتقسيم عند الأصوليين يستعمل في شيء خاص، وهو استنباط علة الحكم الشرعي بمسلك السبر والتقسيم. وضابط هذا المسلك عند الأصوليين أمران: الأول- هو حصر أوصاف الأصل المقيس عليه بطريق من طرق الحصر التي سنذكر بعضها إن شار الله تعالى. والثاني- إبطال ما ليس صالحًا للعلة بطريق من طرق الإبطال التي سنذكر أيضًا بعضها إن شار اله تعالى. وزاد بعضهم أمرًا ثالثًا- وهو الإجماع على أن حكم الأصل معلل في الجملة لا تعبدي، والجمهور لا يشترطون هذا الأخير، والحاصل- أنه هذا الدليل يتركب عند الأصوليين من أمرين. الأول- حصر أوصاف المحل. والثاني- إبطال ما ليس صالحًا للعة، فإن كان الحصر والإبطال معًا قطعيين فهو دليل قطعي، وإن كانا ظنين أو أحدهما ظنيًا فهو دليل ظني. ومثال ما كان الحصر والإبطال فيه قطعيين قول تعالى: {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخالقون} [الطور: 35] لأن حصر أوصاف المحل في الأقسام الثلاثة قطعي لا شك فيهن لأنهم إما إن يخلقوا من غير شيء أو يخلقوا أنفسهم أو يخلقهم خالق غير انفسهم. لا رابع البتة. وإبطال القسمين الأولين قطعي لا شك فيهك فيتعين أن الثالث حق لا شك فيه. وقد حذف في الآية لظهوره. فدلالة هذا السبر والتقسيم على عبادة الله وحده قطعية لا شك فيها، وإن كان المثال بهذه الآية للقطعي من هذا الدليل إنما يصح على المراد به عند الجدليين دون الأصوليين، لأن المراد التمثيل للقطعي من هذا الدليل ولو بمعناه الأعم، والقطعي منه لا يمكن الاختلاف فيه. واما الظني فإن العلماء يختلفون فيه لاختلاف ظنون المجتهدين عند نظرهم في المسائل. وقد اختلفوا في الربا في أشياء كثيرة كالتفاح ونحوه. والنورة ونحوها بسبب اختلافهم في إبطال ما ليس بصالح فيقول بعضهمك هذا وصف يصح إبطاله، ويقول الآخر: هو ليس بصالح فيلزم إبطاله كقولهم مثلًا في حصر أوصاف البر الذي هو الأصل مثلًا المحرم فيه الربا إذا أريد القياس الذرة عليه مثلًا، أما أن يكون علية تحريم الربا في البر الكيل أو الطعم أو الاقتيات والادخار أوهما وغلبة العيش به أو المالية والملكية فيقول المالكي غير الاقتيات والادخار باطل، والكيل هو العلة التي هي مناط الحكم، ويستدل على ذلك بأحاديث كحديث حيان بن عبيد الله عند الحاكم، وفيه بعد ذكر الستة التي يمنع فيها الربا. وكذلك كل ما يكال أو يوزن وبالحديث الصحيح الذي فيه. وكذلك الميزان كما قدمناه مستوفى في سورة البقرة في الكلام على آية الربا. ويقول الشافعي غير الطعم باطلن والعلة في تحريم الربا في البر الطعم، ويستدل بحديث معمر بن عبد الله مسلم «الطعام بالطعام مثلًا بمثل» الحديث كما تقدم إيضاحه أيضًا في البقرة. وهذا النوع من القياس الذي يختلف المجتهودن في العلة فيه هو المعروف عند أهل الأصول بمركب الأصل، وأشار إليه في مراقي السعود بقوله:
وإن يكن لعلتين اختلفا ** تركب الأصل لدى من سلفا

وأشار إلى مركب الوصف بقوله:
مركب الوصف غذا الخصم منع ** وجود ذا الوصف في الأصل المتبع

والقياس المركب بنوعة المذكورين لا تنهض الحجة به على الخصم خلافًا لبعض الجدليين. وإلى كون رده بالنسبة للخصم المخالف هو المختار. أشار في مراقي السعود بقوله:
ورده انتفى وقيل يقبل ** وفي التقدم خلاق ينقل